نزع الجنسية كأداة سياسية.. توجيهات أمريكية تُوسّع نطاق سحب المواطنة

نزع الجنسية كأداة سياسية.. توجيهات أمريكية تُوسّع نطاق سحب المواطنة
الجنسية الأمريكية

يُعيد قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تكثيف إجراءات سحب الجنسية من أمريكيين مولودين في الخارج فتح نقاش حقوقي مباشر حول طبيعة الجنسية في النظام القانوني الأمريكي، وما إذا كانت حقًا مكتسبًا تحكمه ضمانات دستورية صارمة، أم أداة إدارية قابلة للمراجعة الموسعة وفق أولويات السلطة التنفيذية.

ويضع هذا التوجه، بحسب ما كشفته صحيفة "نيويورك تايمز"، ملايين المواطنين المجنسين أمام معادلة قانونية شديدة الحساسية، عنوانها: متى يمكن للدولة أن تنزع صفة المواطنة، وبأي شروط، وبأي سقف من الضمانات.

ويكشف التقرير أن التوجيهات الداخلية الصادرة إلى مكاتب دائرة خدمات المواطنة والهجرة الأمريكية (USCIS) تمثل مرحلة جديدة في حملة الرئيس ترامب على الهجرة، لا تكتفي بتشديد إجراءات الدخول أو اللجوء، بل تمتد إلى إعادة فحص مكتسبات قانونية نهائية لمواطنين يحملون الجنسية الأمريكية منذ سنوات.

ويؤكد الطرح الحقوقي هنا أن الجنسية، وفق الاجتهادات القضائية الأمريكية المتراكمة، تُعد من "أشد الحقوق التصاقًا بالفرد"، ولا يجوز المساس بها إلا وفق معايير استثنائية ضيقة.

تصعيد بأرقام غير مسبوقة

تكشف الصحيفة الأمريكية أن التوجيهات الصادرة يوم الثلاثاء لمكاتب USCIS الميدانية تطلب منها "تزويد مكتب التقاضي في قضايا الهجرة بما بين 100 و200 قضية سحب جنسية شهريًا" خلال السنة المالية 2026، التي بدأت في أكتوبر.

تُظهر هذه الأرقام تصعيدًا حادًا مقارنة بالسنوات السابقة، إذ لم يتجاوز إجمالي عدد القضايا التي رفعتها الحكومة بين عامي 2017 وحتى الآن 120 قضية فقط، وفق بيانات وزارة العدل.

وتضع هذه القفزة العددية، آلية سحب الجنسية أمام اختبار التناسب والضرورة، خصوصًا أن القانون الفيدرالي الأمريكي لا يسمح بسحب الجنسية إلا في حالات محددة، أبرزها ارتكاب تزوير أو تقديم معلومات كاذبة جوهرية أثناء طلب التجنيس.

وتُبرز المقارنة الرقمية الواردة في التقرير أن الانتقال من عشرات القضايا خلال سنوات إلى مئات القضايا شهريًا يغيّر طبيعة الأداة القانونية من إجراء استثنائي إلى ممارسة واسعة النطاق.

توسيع دائرة الاستهداف

يأتي هذا التوجه يأتي ضمن حملة أوسع قادها الرئيس ترامب طوال العام، استهدفت سد ما تصفه الإدارة بالثغرات في نظام الهجرة، تشمل هذه الحملة، منع طلبات اللجوء على الحدود الجنوبية، وتجميد طلبات اللجوء داخل الولايات المتحدة، وفرض حظر دخول على مسافرين من دول ذات أغلبية إفريقية وشرق أوسطية.

تُظهر هذه الخلفية أن سحب الجنسية لا يُطرح كإجراء معزول، بل كحلقة متقدمة في سياسة شاملة تجاه الهجرة، وينقل التقرير عن مسؤولين في الإدارة قولهم إن هذه الإجراءات تهدف إلى جعل البلاد "أكثر أمانًا" والحفاظ على "قيمها"، بينما يحذّر نشطاء من أن التوسع قد يشمل أشخاصًا ارتكبوا أخطاء غير مقصودة في أوراقهم الرسمية، بما يخلق مناخًا من الخوف بين مواطنين ملتزمين بالقانون.

ويصرّح المتحدث باسم دائرة خدمات المواطنة والهجرة الأمريكية، ماثيو ج. تراجيسر، بأن "حرب الدائرة على الاحتيال تتضمن إعطاء الأولوية لأولئك الذين حصلوا على الجنسية الأمريكية بطريقة غير شرعية"، ويضيف أن الدائرة ستتخذ إجراءات سحب الجنسية بحق من "كذبوا أو ضلّلوا بشأن هويتهم أثناء عملية التجنيس"، مع التأكيد على التعاون مع وزارة العدل "لاستعادة نزاهة نظام الهجرة الأمريكي".

ويقابل هذا الخطاب الرسمي قلق عبّر عنه مسؤولون سابقون في الوكالة، حيث تحذّر المسؤولة السابقة في دائرة خدمات المواطنة والهجرة الأمريكية، سارة بيرس، من أن فرض أهداف عددية تعسفية على قضايا سحب الجنسية "يُنذر بتسييس عملية إلغاء الجنسية".

وتؤكد أن اشتراط حصص شهرية تفوق عشرة أضعاف العدد السنوي الإجمالي في السنوات الأخيرة يحوّل أداة نادرة ومهمة إلى أداة غير فعالة، ويؤجج الخوف وعدم اليقين لدى ملايين الأمريكيين المجنسين.

الجنسية بين القانون والسياسة

يدافع مؤيدو قوانين الهجرة الأكثر صرامة عن هذا التوجه باعتباره ضرورة قانونية، ويقول رئيس مركز دراسات الهجرة، مارك كريكوريان، إن البلاد "ليست قريبة من سحب الجنسية من عدد كبير جدًا من الأشخاص"، معتبرًا أن الإجراءات لن تصل إلى مستوى يستهدف أشخاصًا لا ينبغي استهدافهم، يعكس هذا الموقف رؤية تعتبر سحب الجنسية أداة مشروعة لضبط النظام القانوني، لا تهديدًا واسعًا للحقوق.

يُبرز تقرير "نيويورك تايمز" أن عدد الأمريكيين المجنسين في الولايات المتحدة يبلغ نحو 26 مليون شخص، وفق مكتب الإحصاء الأمريكي، وتشير إحصاءات دائرة خدمات المواطنة والهجرة الأمريكية إلى منح أكثر من 800 ألف شخص الجنسية الأمريكية العام الماضي وحده، معظمهم من مواليد المكسيك أو الهند أو الفلبين أو جمهورية الدومينيكان أو فيتنام.

وتُظهر هذه الأرقام أن أي توسع في سحب الجنسية، حتى لو استهدف نسبة صغيرة، يطال شريحة واسعة العدد والتأثير، وتوضح المصادر أن معظم من تُسحب منهم الجنسية يعودون إلى وضع الإقامة الدائمة القانونية، ما يطرح تساؤلات حول الاستقرار القانوني طويل الأمد لهؤلاء الأفراد.

الإطار القضائي لسحب الجنسية

تشرح "نيويورك تايمز" أن دائرة خدمات المواطنة والهجرة الأمريكية تُعد الجهة الرئيسية في عملية سحب الجنسية، إذ تُحيل القضايا إلى وزارة العدل، التي بدورها ترفعها إلى محكمة اتحادية.

وتُبيّن أن هذه العملية يمكن أن تتم عبر دعوى مدنية أو جنائية، وفي الحالة المدنية يجب على محامي الحكومة تقديم "أدلة قاطعة" تثبت الحصول على الجنسية بطريقة غير شرعية أو إخفاء حقيقة جوهرية.

توضح المصادر أن تعقيد هذه الإجراءات جعل قضايا سحب الجنسية نادرة منذ تسعينيات القرن الماضي، ويُظهر تحليل أجرته بلومبيرغ أن عدد القضايا بلغ ذروته في عام 2018، مع تسجيل 90 دعوى جنائية ومدنية.

تسييس المواطنة

تؤكد المسؤولة السابقة في دائرة خدمات المواطنة والهجرة الأمريكية خلال إدارة بايدن، أماندا باران، أن المحكمة العليا "أكدت مرارًا وتكرارًا أن الجنسية والتجنيس أمران بالغا الأهمية والأساس لديمقراطيتنا، ولا يجوز للحكومة سحبهما متى شاءت"، وتدعو إلى توجيه موارد الدائرة لمعالجة الطلبات بدلًا من "البحث في ملفات الأمريكيين".

تعكس هذه التصريحات قلقًا حقوقيًا من تحويل المواطنة إلى حالة قابلة للمراجعة الدائمة، وتُبرز أن المحكمة العليا في عام 2017 اشترطت على الحكومة إثبات ليس فقط كذب الشخص أثناء عملية التجنيس، بل أيضًا أن هذا الكذب أثّر فعليًا على قرار منحه الجنسية.

وكثّف الرئيس ترامب عمليات سحب الجنسية خلال ولايته الأولى أيضا، مثلا قضية بالجيندر سينغ، رجل من نيوجيرسي مولود في الهند، جُرّد من جنسيته بعد أن اكتشفت وزارة العدل دخوله البلاد دون وثائق واستخدامه اسمًا مستعارًا.

دعاوى لسحب الجنسية

توضح وزارة العدل، بحسب المتحدث باسمها تشاد غيلمارتن، أنها رفعت هذا العام 13 دعوى لسحب الجنسية وكسبت ثمانيًا منها. 

وتشير بيانات منشورة إلى رفع أكثر من 100 دعوى خلال إدارة ترامب الأولى، مقارنة بـ24 دعوى فقط خلال إدارة بايدن.

وتحذر الباحثة في مركز برينان، مارجي أوهيرون، من أن منح موظفي وزارة الأمن الداخلي أهدافًا عددية قد يؤدي إلى احتجاز أو استهداف أشخاص لا ينبغي استهدافهم، وتقارن ذلك بما حدث في سياقات الاعتقال والترحيل، معتبرة أن النهج ذاته قد "يثير الخوف والرعب بين المواطنين المجنسين".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية